وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر ومنها :
- إحياءُ اللَّيل: فَيُحَتَملُ أنَّ المرادَ إحياءَ اللَّيلَ كُلَّهُ؛ فهو مثلُ قولِ عائشةَ رضي الله عنها: (كان النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يصومُ شعبانَ كُلَّهُ، كان يصومُ شعبانَ إِلاَّ قليلاً)، ويُؤَيُّدُهُ ما في صحيح مسلمٍ عن عائشةَ قالت: (ما أعلمه صلَّى الله عليه وسلَّم قام ليلةً حتَّى الصَّباح).
قال مالكٌ في المُوَطَّأ: بلغني أنَّ ابنَ المُسَيَّبِ قال: (من شهد العشاءَ ليلةَ القدرِ، يعني في جماعةٍ، فقد أخذ بحظِّهِ منها)، و كذا قال الشَّافعي في القديم: (من شَهِدَ العشاءَ والصُّبحَ ليلةَ القدرِ فقد أخذ بحظِّهِ منها)
2- ومنها: أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يوقظ أهلَهُ للصَّلاةِ في ليالي العشر دون غيره من اللَّيالي، وفي حديث أبي ذَرٍّ أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا قام بِهِمْ ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ، وخمسٍ وعشرينَ ذكر أنَّهُ دعا أهلَهُ ونِسَاءَهُ ليلةَ سبعٍ وعشرين خاصَّةً. و هذا يدلُّ على أنَّهُ يتأكَّدُ إيقاظهم في آكد الأوتار الَّتِي ترجى فيها ليلة القدر.
وأخرج الطَّبرانيُّ من حديث عليٍّ: (أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يوقظ أهلَهُ في العشر الأواخر من رمضان وكُلُّ صغيرٍ وكبيرٍ يطيق الصَّلاةَ).
قال سفيان الثوريُّ: (أحبُّ إِلَيَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، و يجتهد فيه، و ينهض أهله وولده إلى الصَّلاة إن أطاقوا ذلك)
و قد صَحَّ عن النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أنَّه كان يطرق فاطمةَ وعليًّا ليلاً فيقول لهما: (ألا تقومان فتصليان)، و كان يوقظ عائشة باللَّيل إذا قضى تهجُّده و أراد أن يوتر. وورد التَّرغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصَّلاة و نضحُ الماء في وجهه.
و في الموطأ أنَّ عمر بن الخطاب كان يصلِّي من اللَّيل ما شاء الله أن يصلِّي حتَّى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصَّلاة يقول لهم: (الصَّلاةَ الصَّلاةَ) و يتلو هذه الآية: (وَأْمُرْ أهلَك بالصَّلاةِ واصطبرْ عليها) الآيةَ.
3- ومنها: أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يَشُدُّ المِئْزَرَ، والمرادُ بذلك: اعتزاله النساء، وبذلك فسَّره السلف و الأئمة المتقدمون. و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم غالبا يعتكف العشر الأواخر، والمعتكف ممنوع من قربانِ النِّساء بالنَّصِّ، والإجماع.
و قد قالت طائفةٌ من السَّلفِ في تفسير قوله تعالى: (فالآن باشروهنَّ و ابتغوا ما كتب الله لكم)؛ إنَّه طلب ليلة القدر.
و المعنى في ذلك: أن الله تعالى لما أباح مباشرة النساء في ليالي الصيام إلى أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر؛ لئلا يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح فيفوتهم طلب ليلة القدر، فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجد من الليل خصوصا في الليالي المرجو فيها ليلة القدر، فمن ههنا كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يصيب من أهله في العشرين من رمضان، ثم يعتزل نساءه، و يتفرغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.
4-ومنها: الاعتكاف؛ ففي الصَّحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يعتكفُ العشرَ الأواخر من رمضانَ حتَّى توفَّاهُ الله تعالى، وفي صحيح البخاريِّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يعتكف في كلِّ رمضانَ عشرةَ أيَّامٍ، فلمَّا كان العام الَّذي قُبِضَ فيه اعتكف عشرين).
و إنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه و سلم في هذا العشر التي يطلب فيها ليلة القدر قطعا لأشغاله و تفريغا للياليه و تَخَلِّيًا لمناجاةِ ربِّهِ وذكره ودعائه وكان يَحْتَجِرُ حصيرًا يتخَلَّى فيها عن النَّاسِ فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم؛ ولهذا ذهب الإمامُ أحمدُ إلى أنَّ المعتكفَ لا يستحبُّ له مخالطة النَّاس، حتَّى ولا لتعلم عِلمٍ، وإقراء قرآن، بل الأفضلُ له الانفراد بنفسه، والتَّخلِّي بمناجاة ربه وذكره ودعائه.